يقول نزار قباني:
أكثر ما يعذّبني في حبكِ هو أنني لا أستطيع أن أحبكِ أكثر، وأكثر ما يزعجني في حواسي الخمس أنها تبقى خمساً لا أكثر. إن امرأة استثنائية مثلك تحتاج إلى أحاسيس خاصة، وشوق فريد، ودموع تليق بها. وأنتِ بحاجة إلى دين خاص يمثل تعاليمه وطقوسه، بل وأيضًا جنّته وناره. إن امرأة بهذا القدر من الاستثنائية تحتاج إلى كتب تصاغ من أجلها وحدها، وحزن خاص بها، وموت خاص بها، وزمن يقضي فيه وحدها. لكنني، للأسف، لا أستطيع أن أشكل الثواني كخواتم أضعها على أصابعك، فالسنة محكومة بشهورها، والشهور بأيامها، وأيامي محكومة بتعاقب الليل والنهار. في عينيكِ البنفسجيتين، أكثر ما يؤلمني في اللغة أنها لا تكفيكِ، وأكثر ما يضايقني في الكتابة أنها لا تستطيع أن تكتبكِ.
أنتِ امرأةٌ صعبة، كلماتياً ألهث كالخيول على مرتفعاتك، ومفرداتي لا تكفي لقطع المسافات الضوئية نحوك، فمشكلتي ليست معكِ، بل هي مع الأبجدية. ثمانية وعشرون حرفاً لا تكفيني لتغطية بوصة واحدة من أنوثتك، ولا لإقامة صلاة شكر واحدة لوجهك الجميل. ما يحزنني في علاقتي بكِ هو أنكِ امرأة متعددة، بينما اللغة واحدة. فماذا تقترحين أن أفعل لأتصالح مع لغتي ونزيل هذه الغربة بين الخزف والأصابع؟
ربما كنتِ راضية عن مساعدتي لكِ في تحويلك إلى أميرات في كتب الأطفال ورسمك كالملاكات على سقوف الكنائس، لكنني لست راضياً عن نفسي، فكان بإمكاني أن أرسمك بطريقة أفضل وأن أوزع الورد والذهب حول إليتك بشكل يعكس جمالك. ولكن الوقت فاجأني، وأنا معلّق بين النحاس والحليب، بين النعاس والبحر، بين أظافر الشهوة ولحم المرأة، وبين الخطوط المنحنية والخطوط المستقيمة. ربما كنتِ راضية كما هو حال كل النساء بأي قصيدة حب تُقال لكِ، أما أنا، فلا أجد قناعة في قناعاتك.
فهناك مئات الكلمات تطلب لقائي، لكنني لا ألتقي بها، ومئات القصائد تجلس ساعات تنتظرني، فأعتذر لها، إني لا أبحث عن قصيدة امرأة ما، بل أبحث عن “قصيدتكِ” أنتِ. أشعر بالعتب على جسدي لأنه لم يستطع احتوائك بشكل أفضل، وعلى مسامات جلدي لأنها لم تستطع امتصاصك كما ينبغي، وعلى خيالي لأنه لم يستطع تخيل كيف يمكن أن تنفجر الأضواء من نهدين لم يحتفلا بعيد ميلادهما الثامن عشر بصورة رسمية. ولكن ماذا ينفع العتب الآن بعد أن أصبحت علاقتنا كبرتقالة شاحبة سقطت في البحر؟ كان جسدك مليئاً باحتمالات المطر، وكانت مؤشرات الزلازل تحت سرتك المستديرة كفم طفل يتنبأ بالاهتزازات الأرضية.
وللأسف، لم أكن ذكياً بما فيه الكفاية لالتقاط إشاراتك، ولم أكن مثقفاً بما فيه الكفاية لأقرأ أفكار الموج والزبد وأسمع إيقاع دورتك الدموية. وأكثر ما يعذبني في تاريخي معك، هو أنني تعاملت معكِ بمنطق بيدبا الفيلسوف ولم أتعامل معكِ بأسلوب رامبو وزوربا وفان غوخ وغيرهم من الجنون. عامَلتك كأستاذ جامعي يخشى أن يحب طالبة جميلة حتى لا يفقد شرفه الأكاديمي.
ومن هنا، أشعر برغبة شديدة للاعتذار إليكِ عن جميع أشعار التصوف التي قرأتها لك في اللحظة التي كنتِ تأتي بها إليّ مملوءة كالسنبلة وطازجة كالسمكة الخارجة من البحر. أعتذر لكِ بالنيابة عن ابن الفارض، وجلال الدين الرومي، ومحي الدين بن عربي، عن كل التنظيرات والرموز التي كنت أضعها على وجهي في غرفة الحب، حيث كان المطلوب مني أن أكون حادًا كالشفرات وهجوميًا كفهد إفريقي. مشاعري الأخرى التي تتدفق تعكس كل مساحة حبنا.
يقول أُنسي الحاج:
كل قصيدة هي بداية الشعر، وكل حب هو بداية السماء. اجعليني ترابًا، سأعذبك كما تعذب الريح الأشجار، وتمتصينني كما يمتص الشجر التراب. أنتِ الصغيرة، وكل ما تريده يُهدى إليك إلى الأبد، مرتبطًا بكِ بألم الفرق بيننا. أنتزعك من نفسك، وتنتزعينني، نتخاطف إلى سكرة الجوهري، نتجدد حتى نضيع، نكرر حتى نتلاشى، ونغيب في الجنوح في الفقد السعيد، نلج العدم الوردي خالصين من كل شائبة.
غير أنكِ ما أُمسكه هو روح النشوة، وما إن توهمتُ معرفة حدودي حتى حملتني أجنحة التأديب إلى ضياع. لمن يدّعي التخمة، الجوع، ومن يعلن السأم، لدغة الهُيام، ولمن يصيح لا لا ظهور مؤلم لا يُرد في صحراء اليقين المظفر، ظهور فجأة كدُعابة كمسيحة عابثة. ظهورك يحنيني، فأقول له نعم، نحو الأمام من الشرفة الأعلى، كلما ارتميتُ مسافة حب حرقتُ مسافةً من عمر موتك، كائناً من كنت.
ترتفع جذورك في العودة، والوصول إلى الشجرة الأولى، أيها الأمُّ الأولى، أيتها الحبيبة الأخيرة. يا حريق القلب، يا ذهب الأسطح وشمس النوافذ. يغيّرني النهدُ، أسميك الطفولة، أنغمس في وديان غيابك، أقطف كلي وفهمي للزمن. أفرّ منك فتنبتي في القلب، وتفرّين منّي، فيعيدك إليّ مرآتك المخبأة تحت عتبة ذاكرتي. ويداك غصون الحرب، يداكِ يدا الثأر اللذيذ مني، عينيك، كطفلة ترتكب.
يقول علاء عبد المولى:
جسد الربيع نما، وأنتِ عصيَّة. لكِ يا حديقة وحشة، عودي إلى جدل الطبيعة والرياح، إلى زواج الأرض بالذكرى، إلى وادٍ به طوفان أصناف ستغرق، واصنعي فلكاً بأعيننا لمن تاهوا. أنادي كنزك الأغلى، أعيدي للزمان طراوة وحلاوة ونداوة ولتستعيدي. يا قوت ذاكرتي، اسكبيه في يديك لأسترد الروح في خلق جديد، إلى كائن الغياب.
فتنتظر أن تهبط الأقمار من كتب السماء، هذي حقائب نومك انتشرت، تعبئها الدموع، سرقتك ساحرة المراثي نحو عالمه، متى كان الرجوع؟ الحلم في يدك استدار، وطير من شفتيك مجهول الكلام. صمت كأن القبر يدخل بين نافذة ومهد مقفر مدّدته، فطواك مثل الدفتر المنسي في درج الصغار. أغلقت بابك وانسفحت كنعش حزن من ضفاف مشيعيك، ورمواك، ما قرأوا وما سمّوا عليك. وبقيت وحدك كصومعة على جبل بعيد، لم تستطع أن تملأ الأقداح من نهر جرى بين الأغاني والخريف.
والشعر لعبة عاشقين توارثا لغة الشجار، الشعر إتلاف وآلام، وجمع وافتراق. فخذ القصيدة من نهايتها، وضع قمراً على شرفاتها لتضاء أوقات الوداع. دقت طبول النار في وادي الضياع، فقصائد رقصت، وأخيلة رمت زنّارها، ومضت تبحث عن جذور. منسوجة كفّي بخيوط الدموع، وأصابعي هشّمت قناديل الذرى، وركعت للغة التي تمشي على جسر يُرى أو لا يُرى.
لا بد منكِ، لا بد منكِ ليستدير الصوت فاكهة تزين سهرة الأشباح في كهف الزمان، لا بد منكِ لأستعيد الليل من نسيان نجمتِه إلى هذا المكان، لا بد من أشيائكِ الصغيرة ليكتسب النهار حرائق الأحلام فيَّ، ومن يديكِ إلى يدي رسالة في الريح، لا خطاي قرب خطاك بيدر صبوة يعلو، ويجلس حوله فجر المناجل بعد أن تعبت.
ولا بد من عينيكِ تتخذان شرق الوقت، تختبئان في جرس الحياء. أصغي إليه، يشق صدري بالشعاع الفاطمي المزدهي بسلالة الأنوار، لا، لا بد منكِ صديقة تحلو وتبدأ حين فيها انتهى مغفرة الضحى والليل. للحب مغفرة الضحى والليل، ما ودعت روحك عندما ودعت أجنحة الرسائل، ما اندفعت سوى إلى حجر يشق الصمت فيما بيننا للحب صورتُه البعيدة، لا أرى جسدي تراجع عن بنفسجه ونرجسه.
يقول محمود درويش:
على الأنقاض وردتنا، ووجهانا على الرمل. إذا مرت رياح الصيف، أشرعنا المناديل على مهل.. على مهل. وغبنا طيّ أغنيتين كالأسر، نراوغ قطرة الطل، تعالي مرة في البالية أختاه! إن أواخر الليل تعرّيني من الألوان والظل، وتحميني من الذل! وفي عينيك، يا قمري القديم، يشدني أصلي إلى إغفاءة زرقاء تحت الشمس.
بعيداً عن دجى المنفى.. قريباً من حمى أهلي، تشهّيتُ الطفولة فيكِ. مذ طارت عصافير الربيع، تجرد الشجر، وصوتك كان، يا ما كان، يأتيني من الآبار أحياناً وأحياناً ينقطه لي المطر. نقيا هكذا كالنار، كالأشجار.. كالأشعار، ينهمر. تعالي، كان في عينيك شيء أشتهيه، وكنتُ أنتظر، واشديني في زنديك، شديني أسيراً منك يغتفر.
تشهد الطفولة فيكم مذ طارت عصافير الربيع، وتجرد الشجر! ونعبر في الطريق مكبلين.. كأننا أسرى. يدي، لم أدري، أم يدُكِ، حتست وجعاً من الأخرى؟ ولم تطلق، كعادتها، بصدري أو بصدرك.. سروة الذكرى. كأنّا عابرا درب ككل الناس إن نظرنا، فلا شوقاً ولا ندماً ولا شرّاً.
ونغطس في الزحام لنشتري أشياءنا الصغرى، ولم نترك لليلت ناراً.. يذكر الجمر، وشيء في شراييني يناديني لأشرب من يدك، ترد الذكرى. ترجل، مرةً، كوكب وسار على أناملي، ولم يتعب. وحين رشفتُ عن شفتيكم ماء التوت، أقبل، عندها، يشرب. وحين كتبتُ عن عينيكن، نقّط كل ما أكتب، وشاركنا وسادتنا.. وقهوتنا.
وحين ذهبتِ لم يذهب لي صرت منسياً لديك كغيمة في الريح نازلة إلى المغرب.. ولكن إذا حاولتُ أن أنساك، حطّ على يدي كوكب، لك المجد، تجنح في خيالي. من صداك.. السجن والقيد، أراك، استندتُ إلى وسادٍ مهرة، تعدو وأحسك في ليالي البرد.
شمساً في دمي تشدو، وأسمّي لك الطفولة، يشرئب أمامي النهد، أسمّي لك الربيع، فتهتز الأعشاب والورد. أسمّيك السماء، فتمطر الأمطار والرعد. لك المجد، فليس لفرحتي بتحيّري حد، وليس لموعدي وعد. لك.. المجد. وأدركنا المساء، وكانت الشمس تسرّح شعرها في البحر. وآخر قبلة ترسو على عينيّ مثل الجمر، خذي مني الرياح، وقبّليني آخر مرة في العمر.
وأدركها الصباح، وكانت الشمس تمشط شعرها في الشرق، لها الحناء والعرس، وتذكرة لقصرك. خذي مني الأغاني، واذكريني.. كلمح البرق. وأدركني المساء، وكانت الأجراس تدق لموكب المسبية الحسناء، وقلبي بارد كالماس، وأحلامي صناديق على الميناء.
خذي مني الربيع، وودّعيني.
يقول إيليا أبو ماضي:
وَقائِلَةٍ ماذا لقيتَ من الحب؟
فقلتُ الردى والخوف في البعد والقُرب.
فقالت عَهَدتُ الحبَّ يَكسَبُ رَبَّهُ
شَمائِلَ غُرّاً لا تُنالُ بلا حب.
فقلتُ لها قد كان حباً فزادَهُ
نُفورُ المَهى راءً فأَمسَيتُ في حرب.
وقد كان لي قلب وكُنتُ بلا هَوىً.
فلَمّا عَرَفتُ الحبَّ صُرتُ بِلا قلب.
أحدث التعليقات