لماذا أسمع كما لو لم أسمع الخبر؟
هل أصبح قلبي في جسدي كالحجر؟
لماذا جمدت، ولم تتحرك قافيتي؟
ولم أشعر بشيء ولم أرى شعراً ينحدر؟
كأن كل جداول الشعر قد جفّت،
ممن جفف الوقت من الشعر وقد غدر؟
أنا الذي عزفت أوتاري نغماً،
هزّت الوجود والجبال والطيور والشجر.
لماذا سكت، ولم أنطق بقافية؟
ولا رأيت بعيني الدمع ينحدر؟
هل جففت الرمال شعوري وجففتني،
فأصبح الشعر لا خبر ولا علم؟
هل عجزت عن التعبير وأسفي،
كأنني لم أستمع لتلك الجواهر؟
أمي تموت ويديها على كبدي،
يا أمي، ارحميني، فإن القلب قد انكسر.
هزي سريري، إني لم أزل ولداً،
ودثريني، فإن الرياح قد زأرت.
وجففى عرقي، فالصيف ألهبني،
وسلسلي الماء لكي أروي عطشي.
مدي يديك كما كنت ألثمها،
فقد نهضت ووجه الصبح قد انبلج.
واحطني..! تلك العيون غادرة،
وكم رأيت عيوناً توقد الشرر!
وساعديني بأغاني الصيف على شفتي،
وقربيني من وسادي النجوم والقمر.
ما زال صوتك يا أمي يتبعني،
يا رب، رد لي حبيبي الذي أدمن السفر.
يا رب، احفظه من كل الأشرار،
ورد عنه الأذى والكيد والخطر.
واشفي إلهي كسراً حل بي،
فأنت تُجبر يا مولاي ما انكسر.
يا رب، جفت دموع الأمهات هنا،
فأنزل علينا الغيث والمطر.
كل العصافير عادت من مهاجرها،
متى نعود إلى أعشاشنا زُمراً؟
وارحم إلهي زوجاً غاب عائلها،
في ظلمة السجن لم تبصر له أثراً.
وطفلة كلما سألت زميلتها،
أتى أبوك؟ تشظى القلب وانفجرا.
وارحم إلهي شيخاً أرهقه الزمن،
قد كاد من طول ليل أن يفقد البصر.
يا من رددت إلى يعقوب يوسف،
لا تترك الشيخ وحيداً لا يطيق السهر.
يا رب، ما ذنب الأحرار إذا وقفوا،
مثل الجبال، وموج الظلم اكتنفهم؟
ما زال صوتك يا أمي يؤلمني،
إني أسأتُ وجئت اليوم معتذراً.
لا والذي خلق الدنيا وصورها،
ما خنتُ عهودك يوماً، ما قطعت حبل الوصل.
لكنها محن حلت بساحتنا،
أودت بعقول الذين قد ربطوا الفكر.
أمي تموت ولم أخف عند رؤيتها،
ولا قرأت على جثمانها أي سورة.
ولا حملت جثتها على كاهلي،
ولا وسعتني هوايات الماشين.
يقول الشاعر محمود درويش في قصيدته إلى أمي:
أحنّ إلى خبز أمي،
وقهوة أمي،
ولمسات أمي،
وتكبر في طفولتي،
يوماً على صدر يوم.
وأعشق عمري لأني،
إذا متّ،
أخجل من دموع أمي!
خذيني، إذا عدت يوما،
وشاحاً لهدبك،
وغطّي عظامي بعشب،
تطهر من طهر كعبك،
وشدّي وثاقي..
بخصلة شعر،
بخيط يلوح في ذيل ثوبك..
عساي أصير إلهًا،
إلها أكون..
إذا ما لمست قرارة قلبك!
ضعيني، إذا ما عدت،
وقوداً بتنور نارك..
وحبل غسيل على سطح دارك،
لأني فقدت الوقوف،
بدون صلاة نهارك.
هرمت، فردّي نجوم طفولتي،
حتى أشارك،
صغار العصافير،
درب العودة..
لعشّ انتظارك!
أمي، كتبت لك الحنين،
وزرعت أقلامي أنين،
وروَيتهم بالشعر، حين خروا،
عند ذكرك ساجدين.
أمي، في عمق العالمين،
أرسلت أصدائي حنين.
ومضيت أصرخ ألف أمي،
منذ آلاف السنين.
في السابقين.. واللاحقين،
في كل ذرة طين.
ونسجت باسمك ألف مي،
لادٍ وميلادٍ مبين.
لكرامة الإنسان في الأوطان،
مرفوعة الجبين.
حتى يرى التاريخ أني،
حين أصرخ، لا ألِين.
فجّرت أضلاعي، بدأت به،
فجّرت فيها ثورة للناس، أشعلت الوتين.
وأتيت قلبك بالدم،
ع كأنني طفلٌ حزين.
وكأنني رغم الرغبة،
بين شكي واليقين.
ما زدتُ في دنياك إلا،
أن أكون فيها جنين.
أمي، غصون الزيزفون،
أمي، المناسك والمُتون.
أمي، مواقيت الصلاة،
إذا تلاها العابدون.
أمي، تباشير الصباح،
إذا رأتها الخائفون.
أمي، تباشير الغروب،
إذا رآها الصائمون.
ما بين صبح ومساء،
أمي، ضياءٌ للعيون.
أمي، غناء الطير في أعشاشها،
فوق غصون الأشجار.
أمي، بكاها النأي والقانون،
في إحدى اللحون.
أمي، نعاها القدس والأقصى،
وعاشت بها السنين.
أمي، مرارات السلام،
إذا ارتأها المشركون.
أمي، ومن لي غير أمي،
لا أصير ولا أكون.
أمي، الأمان، إذا رأيت الكون،
في كف المنون.
آنست أمي والشجن،
وكتبت بينهما الوطن.
ونسجت بالألفاظ من شعري،
على شعري كفن.
وسدت فيه الآه بالأسحار،
ميلاد حسن.
وعزفت قيثاري، فغنى الريح،
في عرس الوسن.
حاكت يمين الشعر،
حول الأم موال اليمن.
غنت به بلقيس في صنعاء،
وفي قاع عدن.
غنيت أمي في حقول البن،
في أرض اليمن.
غنيتها ورداً ورياحين،
ملأت بها الوطن.
ورويتها غصناً من الزيتون،
في وجه الفتن.
منذ أشرأبت أعناق الأغصان،
في وادي تُبن.
للنور، يسرق خطره،
بين المعاصم والرّسَنْ.
غنيت أمي، لا أخا للصّحب،
إذا قالوا: وَهَن.
غنيتها يا حبّ، في شعري،
وإن قالوا: لمن؟
للعابد المصلوب،
يبكي في المساجد كالوثن.
للحائر المجروح، لا يرقى،
لإيقاف الزمن.
للخائف المرعوب، لا يقوى،
وإن غنوا جبن.
للشمس تفتح بين أعتابي،
وأعتابي وطن.
صباح الخير يا حلوة..
صباح الخير يا قدستي الحلوة.
مضى عامان يا أمي،
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافية،
وخبأ في حقائبه،
صباح بلاده الأخضر،
وأنجمها، وأنهارها، وكل شقيقها الأحمر.
وخبأ في ملابسه،
طرابيناً من النعناع والزعتر،
وليلكةً دمشقية..
أنا وحدي..
دخان سجائري يضجر،
ومقعدي يضجر،
وأحزاني عصافير،
تفتش –بعدُ- عن بيدر.
عرفت نساء أوروبا،
وعرفت عواطف الإسمنت والخشب،
وعرفت حضارة التعب،
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر.
ولم أعثر..
على امرأة تمشط شعري الأشقر،
وتحمل في حقيبتها إليّ عرائس السكر.
وتكسوني إذا أعرى،
وتنشُلني إذا أعثر.
أيا أمي..
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر،
ولا زالت بخاطره،
تعيش عروسة السكر.
فكيف.. فكيف يا أمي،
غدوت أباً..
ولم أكبر؟
صباح الخير من مدريد،
ما أخبارها الفلّة؟
بها أوصيك يا أمي،
تلك الطفلة الطفلة،
فقد كانت أحب حبيبة لأبي،
يدلّلها كطفلته،
ويدعوها إلى فنجان قهوته،
ويسقيها،
ويطعمها،
ويغمرها برحمته..
.. ومات أبي،
ولا زالت تعيش بحلم عودته،
وتبحث عنه في أرجاء غرفته،
وتسأل عن عباءته،
وتسأل عن جريدته،
وتسأل –حين يأتي الصيف-
عن فيروز عينيه،
لتنثر فوق كفيه دنانير من الذهب.
سلامات..
سلامات..
إلى بيت سقانا الحب والرحمة،
إلى أزهارك البيضاء، فرحة ساحة النجمة،
إلى تختي،
إلى كتبي،
إلى أطفال حارتنا،
وحيطان ملأناها،
بفوضى من كتابتنا،
إلى قطط كسولات،
تنام على مشارقنا،
وليلكة معرشة،
على شباك جارتنا.
مضى عامان، يا أمي،
ووجه دمشق،
عصفور يخربش في جوانحنا،
يعض على ستائرنا،
وينقرنا،
برفق من أصابعنا.
مضى عامان، يا أمي،
وليل دمشق،
فل دمشق،
دور دمشق،
تسكن في خواطرنا،
مآذنها تضيء على مراكبنا،
كأن مآذن الأموي،
قد زُرعت في داخلنا،
كأن مشاتل التفاح،
تعبق في ضمائرنا.
كأن الضوء، والأحجار،
جاءت كلها معنا.
أتى أيلول يا أماه،
وجاء الحزن يحمل لي هداياه،
ويترك عند نافذتي،
مدامعه وشكواه.
أتى أيلول، أين دمشق؟
أين أبي وعيناه،
وأين حرير نظرته؟
وأين عبير قهوته؟
سقى الرحمن مثواه،
وأين رحاب منزلنا الكبير،
وأين نُعماه؟
وأين مدارج الشمشير،
تضحك في زواياه؟
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطته،
وآكل من عريشته،
وأقطف من بنفشه.
دمشق، دمشق..
يا شعراً،
كتبناه على حدقات أعيننا،
ويا طفلاً جميلاً،
من ضفائره صلبناه.
جثونا عند ركبته،
وذُبنا في محبته،
إلى أن في محبتنا قتلناه.
أحدث التعليقات