لشرح قصيدة المتنبي في مدح كافورٍ الإخشيدي وقعٌ في الآذان والقلوب، إذ سطر المتنبي أروع المباني والمعاني للذم والهجاء في صورة المدح، فأنى لشاعر أن يسخر من الملك الذي استضافه دون أن يكتشف هجاءه له، والمتنبي مدح كافورًا في أكثر من قصيدة، نتكلم في موقع سوبر بابا عن أشهرها والتي مطلعها: كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا … وحسب المنايا أن يكن أمانيا، فإلى نصها وشرحها.
كافور الإخشيدي هو غلام محمد بن طغج الإخشيد، مؤسس الدولة الإخشيدية التي حكمت الشام ومِصر، اشترى محمد كافورًا من النوبة، ثم بعد موت محمد تولى كافورٌ الحكم، وفي أثناء تنقل المتنبي بين الملوك استضافه كافور ليمدحه، لكن أبا الطيب المتنبي كانت له مآرب أخرى غير المال، وهي السلطة والجاه، ففي سبيل الوصول إليها مدح كافورًا أكثر من مرة، أشهرها قصيدته سنة 364 التي يقول فيها:
يكفي للمرء أن يرى الموت شفاء له من الأمراض، ويراه أمنيَة يتمناها.
ويقول له إنك تتمنى الموت لما رفض صديقك لقاءك، ولما أخفى عدوك كرهه لك، فلا صديق يسليك، ولا عدو تغلبه أو يغلبك، فما فائدة الحياة؟! وهذا هو المرض المذكور في البيت الأول، أي الموت.
إذا رضيت أن تعيش ذليلًا فلست بحاجة إلى السيف، فالسيف يزيل الذل ويبعده، وأنت تحب الذل.
وإن كان الذل طريقك فابتعد عن الرماح الطويلة فلست أهلًا للغارات، ولست أهلًا أيضًا لركوب الخيل القوية.
يحث المتنبي في هذا البيت كافورًا على ترك الحياء، فيضرب المثل بالأسد لأنه لو كان متصفًا بالحياء ولم يصطد فريسته سيظل جائعًا، لكنه يفترس ويحرص على الصيد، فالمرء لا يجب أن يكون ملازمًا للحياء دائمًا، بل القوة مطلوبة لنيل المطالب.
في صدد شرح قصيدة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي نوضح أن الأبيات السابقة تحتمل المدح والذم، لذا ذكر غيرُ واحدٍ من الشراح أنها هجاء وليست مدحًا، لكن الأبيات الآتية صريحة في المدح، حيث قال المتنبي:
يعود للمدح قائلًا: أحببتك أنت قبل حبي لسيف الدولة الذي غدر بي، فلا تغدرْ بي أنت وكن وفيًا.
يخاطب قلبه: أعلم أنك تشكو يا قلبي فراق سيف الدولة، لكن لا ينبغي لك ذلك لأنه غدر بي، ثم هدد قلبه بالتبرء منه إن لم ينتهِ عن شكوى فراق سيف الدولة.
الدموع تغدر بصاحبها إن ذرفت على من غدر بها، فلا يستحق الغادر أن تُذرف الدموع عليه، وإلَّا كانت الدموع غيرَ وفيَّةٍ بصاحبها.
يجب على الكريم ألّا يذكِّر من يكرمُه بكرمِه ليُذِلَّه، فالكريم يعطي ولا ينتظر المقابل، لأن المال سيذهب على كل حال، والأجر من الله هو الباقي.
ترك الكريم الأذى يجب أن يكون من القلب بالطبع والحب، وليس بالتكلف والتصنع، وإلا ظهر هذا التكلف على أخلاق المرء شاء أم أبى.
يكلم قلبه مرة أخرى قائلًا: لا تشتق إليه؛ لأنه لن يبادلك الحب.
هذا البيت شرح لما قبله، وفيه تشبيهُ مَن فارقه بالشيب، ومعناه: لو فارقتُ شيب الرأس ورجعت صبيًا -والصبا أفضل من العجز-، لو فارقته لكنت حزينًا عليه مشتاقًا إليه وهو أمر مكروه، فإن كان الشوق إلى المكروه لاحقٌ بالإنسان، فكيف الشوق للمحبوب، وهذا البيت أروع ما قد يُسمع في الوفاء، وهو أسبك وأجود بيت في شرح قصيدة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي.
استثنى من الشوق والوفاء زيارته كافورًا في مصر، فوجد عنده حياته ونصحه والحب والشعر، ووصفه بالبحر لسعة كرمه وحسن ضيافته.
يتضح لنا من شرح قصيدة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي أن المتنبي ينتقل إلى وصف رحلته إلى كافور ومدى صعوبته وأنه صبر على الصعاب ليصل إلى ملكه، حيث قال:
يقول إنه ركب الخيل إلى كافورٍ، فأسرعت الخيل بكل نشاط لتصل إليه.
وهذه الخيل تنقش على الحجارة الآثار من قوتها، وهذا لأنها بلا نعال.
هذا البيت أدق وأجمل ما وُصفت به العيون، يقول المتنبي فيه: إن العيون ترى المحبوب البعيد الغائب كأنه أمامها، وهنا يصف بصرَ الخيل بصدق النظر إلى من تمشي إليه في شدة ظلمةِ الليل.
ويصف هنا قوة سمع الخيل أنها تسمع الكلام الخفي والأسرار، حتى كلامُ الإنسان مع نفسه تسمعه بصدقٍ.
عادة المسلمين أنهم يهجمون على أعدائهم صباحا، فالخيل وقتئذٍ تكون قوية نشيطة، فعندما يمسك الفارس برباط الخيل يشدُّ الخيلُ الرباطَ من قوته، وكأن الرباط أفعى، ويحتمل أنه يشبه نفسَه وأصحابَه بالأفاعي أيضًا.
يسير المتنبي بعزم وهمة قلبٍ تسبق الجسم.
يسير قاصدًا الملك تاركًا غيره لأنه البحر وغيره نهرٌ.
أحضرتنا هذه الخيل إلى أفضل إنسان في الزمان وهو الملك كافور، وتركت الخيل غيره لأن كافورًا مثل بياض العين غالٍ ونفيس.
ثم يعود للتعريض بسيف الدولة بقوله إن الخيل تركت المحسن إليهم إلى المحسنين أنفسهم.
ذكر العلماء أن هذا البيت لم يُقل مثله، إذ معناه عجيب؛ يقول: لم نخلق إلا رغبة في لقاء الملك كافور، وفي البيت من الغلو ما فيه.
أنا لا أفعل مثلما فعل غيري من الأفعال الجميلة، بل أبتكر وآتي بما لم يأتِ به أحدٌ.
يتلطف الملك مع الأعداء بكرمه، فإن لم ينتهوا أهلكهم وقتلهم.
يستمر المتنبي في مدح الممدوح وهو الملك كافور، يقول له: أبا المسك: وجهك الذي أراه كنت أشتاق إليه وها أنا الآن أدركته.
واجهت من أجل لقائك الأراضي والجبال وتحملت الحر الشديد والهواء العاصف الذي يجعل الماء يابسًا، وهذا من مبالغاته في المدح لأن الماء لا يَيْبس أبدًا.
يرجع المتنبي إلى موضوع قصيدته وهو المدح الذي هو محور حديثنا في شرح قصيدة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي، وفي الأبيات الآتية أنشد أبو الطيب أبلغ المعاني في المدح، حيث قال:
كنية الملك كافور: أبا الطيب، فأخذ المتنبي معناها وقال إنه ليس أبا الطيب فقط بل أبا المسك وهو من الروائح الجميلة المشهورة، ويقول له إنك أبا المفاخر والصفات الجميلة كلها.
بلغتَ في الفضل والفخر السيادة، فكلّ ما عند الناس من الصفات الجميلة العالية مجتمعةٌ فيك.
الناس يجتهدون لاكتساب المعالي والفضائل، أما أنت فمعطيها وواهبها بكرمك.
ليس بكثير عليك أن يزورك رجل يمشي على رجليه من الفقر فتغنيه وتكرمه فيرجع إلى بلاده ملكًا مكرَّمًا.
وتعطي السائل إمارة الجيش وتجعله قائدًا له.
ومن حكمتك وخبرتك وتجاربك لا تهتم بالدنيا وتحتقرها؛ لأن كل ما عليها فانٍ، وأسأل الله أن يطيل لك البقاء، ويبعد عنك الفناء.
ولم تكن ملكًا بالتمني والأحلام، بل بالتعب والقوة والاجتهاد، والناس يشهدون على أمجادك وحروبك.
الناس يحاولون الوصول إلى المعالي في الدنيا، وأنت تريد الوصول بهمتك إلى السماء.
تجهزت لأيام الشدة والقتال واستعددت لها بسيوفك وجيوشك، تفعل ذلك بحب ورغبة، حتى أنك ترى غبار الجو صافيًا.
قد يكون الملك حريصًا على نفسه لا يخاطر إلى المقاتلة، لكن من شدة كمال الملك فإنه أشجع الناس وأقواهم، وهذا يتبين من خلال شرح قصيدة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي:
ركبت الخيل إلى الحرب وأنت غضبان لا يرضيك إلا الفوز.
والسيف يطيعك فيما تأمره به أو تنهاه عنه، يعني قوتك تجعل السيف مطيعًا لك.
ورماحك لا ترضى إلا بقتل خيل الأعداء، وهذه الأبيات السابقة في وصف المتنبي لقوة الملك كافور.
تقود قوات الجيش وفصائله لتهزم الأعداء.
وأنت دائمًا أول المحاربين لا ترضى أن تكون الثاني، تغزوهم بخيلك وتغني فرحًا بانتصارك عليهم.
ولا تخاف من الحرب، بل تبادر إليها وتقدم عليها قبل جيشك.
وبلغت قوتك أن تقطع بسيفك سيوف غيرك، ويدك قويةٌ قوةَ السيف.
سام من أولاد نوح عليه السلام، والعرب من ذرية نوح، فلو رأى سام قوتك وعظمتك لدافع عنك بنفسه وذريته.
والله بلغك غاية المحاسن والفضائل التي ذكرتها، فأنت يا كافور أعلى مما مدحتك به؛ فطموحك عالٍ لا يتوقف.
من علو همتك أن نفسك تدعوك إلى المجد والرفعة فتلبيها وغيرك لم يلبِّها ولم يأتِ بما أتيت به.
نتيجة ذلك أنك أصبحت أفضل من العالم بعيدًا عنهم بمكانتك، قريبٌ منهم بكرمك.
نكتفي بهذه القصيدة من قصائد مدح المتنبي لكافور الإخشيدي لدلالتها على خصائص المتنبي وطريقته في المدح؛ لأن معاني المدح متشابهة يدل بعضها على بعض، والقصيدة وإن كانت في مدح كافور فإنه ضمنها مدح نفسه وذم سيف الدولة، ونذكر للتشويق والفائدة مطلع ثلاث قصائد من مدائح المتنبي لكافور:
لما اشترى كافور بيتًا طلب من المتنبي مدحه فأنشد:
إنما التهنئاتُ للأكْفَاءَ ** ولمن يَدني من البُعدَاءِ
وأنا منكَ لا يهنِّئُ عضوٌ ** بالمسرَّاتِ سائرَ الأعضاءِ
سنة 347 أهدى إليه الملك فرسًا، فشكره بميمية مطلعها:
فراقٌ ومن فارقتُ غيرُ مُذَمَّمِ ** وَأَمٌّ وَمَن يَمَّمْتُ خيرُ مُيَمَّمِ
وما مَنزلُ اللذاتِ عندي بمنزلٍ ** إذا لم أُبَجَّلْ عندهُ وأُكرَّمِ
من المهم بعد معرفة شرح قصيدة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي الاطلاع على آخر قصيدة مدح فيها أبو الطيب كافورًا، وأولها:
مُنًى كُنَّ لي أنَّ البياض خِضابُ ** فيخفى بتبييضِ القرون شبابُ
لياليَ عند البيضِ فَودايَ فتنةٌ ** وفخرٌ وذاك الفخرُ عندي عابُ
شخصية المتنبي العالية السامية حثته على مدح الملوك لنيل ما يريد، وإلا فإنه ينقلب ضدهم فيهجوهم أشد هجاء كما مدحهم أجمل مدح، فأبو الطيب لا يهمه الأشخاص بقدر ما يهمه السلطة والرفعة، وفي هجائه لكافور بعد مدحه مثالٌ، والقارئ يأخذ من هذه وتلك ما يُعلي حصيلته اللغوية ويرفع ذائقته البلاغية، والأهم منهما تعلم الحكمة والعقل والأدب.
أحدث التعليقات