دراسة مفهوم الإنسان في الفلسفة اليونانية

الإنسان في الفلسفة اليونانية

لم يكن الإنسان يعد محوراً رئيسياً للبحث الفلسفي في الفلسفة اليونانية قبل ظهور سقراط، حيث كانت جهود الفلاسفة مركزة على دراسة السبب الرئيسي للوجود، أو العنصر الأساسي الذي ينشأ منه باقي الوجود. ومع ذلك، يمكن العثور على العديد من الحكم والتوجيهات التي طرحها الفلاسفة قبل سقراط والتي تتعلق بالإنسان، مما يدل على أن وجوده كان جزءاً من خطابهم الفلسفي. من بين هذه التوجيهات، يمكن الإشارة إلى ما يلي:

وصية فيثاغورس في الحكمة

أشار فيثاغورس إلى أن الحكمة هي صفة خاصة بالآلهة، وهو يعرض نفسه كفيلسوف محب للحكمة. ويعرف الفلسفة بأنها محبة الحكمة. يعتبر فيثاغورس أحد من أسس المفهوم الفلسفي، حيث دعا إلى السعي لنيل الحكمة من خلال الفضائل. وقد أسس مدرسة فلسفية كانت متاحة للجميع، حيث شملت طلابه من النساء، الأطفال، الشيوخ، والرجال.

الإنسان في فلسفة سقراط

كان تركيز سقراط منصباً على الإنسان، والذي يمكن ملاحظته من خلال شكل ومضمون أفكاره. لم يكن سقراط من أولئك الذين ينعزلون عن المجتمع للتأمل، بل كان يتجول في شوارع أثينا محاوراً الشباب والنساء، دون أن يقتصر حواره على النخبة المثقفة فقط. وقد وثق أفلاطون هذه المحاورات في مؤلفاته، المعروفة بنفس الاسم. وكانت فلسفة سقراط متعلقة بالإنسان من خلال عدة جوانب.

من أبرز ما قدمه سقراط هو دعوته إلى “اعرف نفسك” كقاعدة أخلاقية، مشجعاً الأفراد على التركيز على معرفة ذواتهم بدلاً من الشغل بمعرفة أصل الكون. وكان يرى أن أسمى أنواع السعادة تكمن في معرفة الحق، حيث أن المعرفة تعتبر فضيلة بينما يعتبر الجهل رذيلة. كما يمكن اعتبار أفكار سقراط بمثابة امتداد للفلسفة الحديثة، حيث كان التركيز على المعرفة، وتوليد الأفكار عنصراً أساسياً في خطابه الفلسفي.

إن التفكر والبحث عن الفضيلة، والالتزام بالقوانين، تميز الإنسان المفكر والمتأمل، وهذا يتطلب إرادة قوية وعزم. ويمكن اعتبار حياة سقراط مرجعاً رئيسياً للأفكار التي دعا إليها، ومن أبرزها أنه لم يسعى للهروب عندما اقترب حكم الإعدام عليه بل واجهه بشجاعة، مما يعكس ثباته على موقفه بشأن احترام القوانين.

أما بالنسبة لرؤيته للجسد والمادة، فقد اعتبر سقراط أن الجسد هو سجن للمادة، وعند ارتفاع الروح عن الجسد، تعود إلى طبيعتها الحقيقية، مما أثر في فلسفة أفلاطون المثالية.

الإنسان في فلسفة أفلاطون

تعتبر فلسفة أفلاطون من أبرز الفلسفات التي استكشفت طبيعة وجود الإنسان، حيث تناولت أبعاداً سياسية واجتماعية بجانب القيم الأخلاقية. تأثر أفلاطون بشكل كبير بفلسفة سقراط، وقد لاحظ أنه لم يعطِ تعريفاً واحداً أو شكلاً ثابتاً للإنسان في كتاب الجمهورية، بل أقر بوجود تفاوت فردي بين الناس.

هذا التفاوت يعكس فروقات فردية، فقسم النفس الإنسانية إلى ثلاثة نوعيات لكل منها فضيلة ودور خاص في المجتمع، وهذه الأنواع هي كالتالي:

  • النفس العاقلة: تميزها الحكمة، وهي للنخب الحاكمة من الفلاسفة.
  • النفس الغضبية: تميزها الشجاعة، وهي للجيوش والحراس.
  • النفس الشهوانية: تميزها العفة، وهي للعموم خاصةً الحرفيين وأرباب الصناعات.

الإنسان في فلسفة أرسطو

يمتاز الإنسان بقدرته على التفكير المنطقي وبإقامة علاقات اجتماعية. أسس أرسطو علم المنطق، حيث أشار إلى أن التفكير المنطقي محصور بالإنسان وحده دون غيره من الكائنات الحية. ويعرف المنطق الأرسطي على أنه نسبة لإسهامات أرسطو فيه. كما أن الفلسفة الأخلاقية لأرسطو تناولت فكرة الوسط الذهبي، حيث يعتبر ذلك معيارًا لضبط سلوك الأفراد، حيث تقع الفضيلة بين رذيلتين، كمثال الشجاعة التي تقع بين الجبن والتهور.

الإنسان في الفلسفة اليونانية المتأخرة

احتل موضوع الإنسان مكانة بارزة في الفلسفات بعد أرسطو، لاسيما في الفلسفة الرواقية والفلسفة الأبيقورية. كلا المذهبين يسعيان لتحقيق سعادة الفرد والتخفيف من معاناته. سعت الفلسفة الأبيقورية للحد من مخاوف الإنسان من الموت والعقاب في الآخرة، بالإضافة إلى إنكار وجود الآلهة كقوة مؤثرة.

في هذا الإطار، أفادت الفلسفة الأبيقورية بأن الموت غير موجود عندما يكون الإنسان. وفي حالة حدوث الموت، لن يشعر الإنسان بشيء. بينما دعت الرواقية إلى العيش وفق الطبيعة وعدم القول بأن الإرادة الإلهية تتعارض مع الطبيعة. من الجدير بالذكر أن أفكار الفلسفتين الأبيقورية والرواقية حققت رواجاً واسعاً في الأوساط الفلسفية، وأثرت بشكل كبير على الفلاسفة اللاحقين.

Published
Categorized as مقالات فلسفية عميقة