عبادة التأمل في مخلوقات الله
أعطى الله -سبحانه وتعالى- لعباده المسلمين مجموعة متنوعة من العبادات ضمن شريعة الإسلام، حيث تتباين هذه العبادات بين كونها بدنية، أو قولية، أو حتى قلبية غامضة. يأتي هذا التنوع ليبقي الإنسان في حالة من الشوق والرغبة في العبادة، مما يمنع عنه الملل من الروتين اليومي للعبادات.
من هذه العبادات، تبرز ما يعرف بالعبادة الصامتة، وهي العبادة التي تتعلق بالتفكر والتأمل في عظمة الله وقدرته في خلقه. تعتبر هذه العبادة عملية داخلية تتم في قلب الفرد، دون أن تتضح في أفعاله أو أقواله، إذ لا تحتاج إلى استخدام اللسان أو اليدين أو أي من الجوارح. وفي كتابه العزيز، يشير الله -عز وجل- إلى فضل التفكر، كما جاء في قوله: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
التفكر في المصطلح الشرعي ينطوي على استخدام العقل في التأمل في آيات الله في الكون والشرع، ويتطلب ذلك التدبر والملاحظة لجمال ودقة سنن الله في خلقه والبحث عن العبر والدروس المستفادة.
لذا، يدعو الله -عز وجل- الكافرين في القرآن الكريم إلى التأمل في أسرار الكون علّهم يسعون للتوبة والعودة إلى العبادة، حيث قال: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِينُونَ).
مجالات عبادة التأمل
يمكن للإنسان استكشاف ميادين متعددة من أجل الاستفادة من عبادة التأمل، ومن أبرز هذه المجالات:
- التأمل في الكون وما يشتمل عليه من إبداع وإتقان وجمال، مثل التأمل في خلق الجبال والأشجار والطبيعة وما تحتويه من مناظر رائعة، فضلاً عن التفكر في جريان الأنهار وتغيرات الليل والنهار وما يصاحب ذلك من اختلافات في أحوال الأرض، مما يوضح كيف يسير كل شيء في الكون بنظام دقيق.
- التأمل في آيات القرآن وما تحمله من دقة في التشريع وبلاغة في اللغة وأسلوب متميز في عرض قضايا التوحيد والأخلاق.
- التأمل في خلق الإنسان، حيث أبدع الله -عز وجل- في تشكيل الإنسان بشكل يجعله مؤهلاً للقيام بمهامه بدقة وكفاءة عاليتين.
- التأمل في طبيعة البشر وما جبلهم الله عليه من حب المال والشهرة والرئاسة والرغبة في الخلود.
- التأمل في الكائنات الحية بتنوعها وأساليب حياتها، حيث أعد الله -عز وجل- الظروف المناسبة لكل منها.
- التفكر في حياة الدنيا وسرعة زوالها، وما تحويه من صعوبات واختبارات، حيث إن الانجراف خلفها يؤدي إلى الفشل والخذلان.
- التفكر في قصص الأمم السابقة، وكيف استكبروا عن عبادة الله وباءوا بالهلاك، تاركين عبرة لمن يعتبر.
ثمرات التأمل في مخلوقات الله
لعبادة التأمل في مخلوقات الله أهمية عظيمة تعود بالنفع على الإنسان، ومن أبرز ثمراتها:
- يمنح التأمل الحكمة ويغرس في القلب خشية الله وتعظيمه، كما يحيي معانٍ سامية في النفس، ويساعد على إدراك العيوب والخصائص الشخصية.
- يعزز التأمل إيمان الإنسان ويقوي مفاهيم التوحيد والتسليم لله -عز وجل- من خلال مشاهدته لعظمتها وقدرتها على الخلق والتدبير.
- يفتح التأمل أبواب المعرفة والعلم، إذ يمكن للإنسان من خلاله اكتساب معلومات جديدة تفيده في مختلف جوانب الحياة.
- يعد التأمل نوعاً من العبادات التي تقود إلى الخشوع والخضوع لله -عز وجل-.
- يعتبر التأمل من صفات العلماء والمفكرين.
أمثلة من السلف الصالح حول عبادة التأمل
قدم السلف الصالح نماذج عديدة من حرصهم على ممارسة عبادة التأمل والتفكر في مخلوقات الله، ومن أبرز أقوالهم التي تعكس أهميتها لديهم:
- قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: “إنّي لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليّ فيه نعمة، ولي فيه عبرة”.
- كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول إن التأمل في خلق الله -عز وجل- ونظام الكون يُعتبر أفضل من قيام ليلة كاملة.
- كان بِشر الحافي يقول إن الناس لو تفكروا في عظمة الله -عز وجل- لما عصوه.
- كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يرى أن التفكر في نعم الله يعد من أفضل أنواع العبادات.
- بكى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- ذات يوم، وعندما سأله أصحابه عن سبب بكائه، قال: “فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها، ولئن لم تكن فيها عبرة لمن اعتبر، إنّ فيها مواعظ لمن تدبر”.
أحدث التعليقات