البنيوية التكوينية في الأدب: تحليل نقدي شامل

البنيوية التكوينية في النقد الأدبي

تُعرّف البنيوية التكوينية أو التوليدية (Genetic Structuralism) بأنها واحدة من الفروع المهمة في البنيوية، وتعتبر أيضًا مناهج ما بعد البنيوية. وقد نشأت هذه المدرسة لتلبية احتياجات النقد الأدبي من خلال ربط الجوانب الاجتماعية بالجوانب اللغوية.

تأسست البنيوية التكوينية استجابة لرغبة بعض المفكرين والنقاد الماركسيين، وخصوصًا الفرنسي لوسيان غولدمان، الذين سعوا للتوفيق بين المفاهيم البنيوية في صيغتها الشكلانية وبين الأسس الجدلية للفكر الماركسي، الذي يركز على التفسير المادي الواقعي للفكر والثقافة بشكل عام. بناءً على ذلك، يتجاوز الفكر الماركسي مفهوم البنية المغلقة للنص الأدبي، ويسعى لربط النص بسياقه الاجتماعي.

أعلام البنيوية التكوينية

كان للفيلسوف المجري جورج لوكاتش (György Lukács) دور بارز في تطوير الاتجاه البنيوي التكويني، إلى جانب عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu). سعى لوكاتش إلى الربط بين التطورات الاجتماعية والأدبية، مما أسفر عن نقلة نوعية في علم الاجتماع الأدبي، وقد اعتمد عليه أبرز منظري المنهج البنيوي التكويني، كغولدمان.

استند غولدمان إلى أفكار عديدة لتأسيس علم حقيقي للفكر الإنساني، مستلهمًا من النقد الماركسي وأطروحات فلاسفة مثل كانط وهيغل. كما كان له تأثير كبير من آراء لوكاتش، حيث أراد تقديم بديل علمي لمنهج ليفي ستراوس وفلسفة ألتوسير.

أسس غولدمان لفكرة “رؤية العالم” كإحدى دعائم البنيوية التكوينية، حيث يُعتبر الأدب والفلسفة تجسيدًا لرؤية العالم، تعكس واقعًا اجتماعيًا مشتركًا، وليس مجرد وجهة نظر فردية. وبالتالي، فإن هذه الرؤية تعبر عن أفكار مجموعة بشرية تعيش في ظروف متشابهة.

يتأسس المنهج التكويني، من وجهة نظر غولدمان، على مبدأين رئيسيين هما:

  • المبدأ الأول: كل تأمل في العلوم الإنسانية والثقافة لا يمكن أن يكون منفصلًا عن المجتمع، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الحياة الثقافية له. يستخدم التأمل التكويني مقاربة تناقش القضايا ضمن سياق الفكر الاجتماعي، أي أنه لا ينظر إلى البنية النصية بمعزل عن العوامل الاجتماعية والثقافية.
  • المبدأ الثاني: إن الأساس الذي يُبنى عليه الفكر الجدلي للبنيوية التكوينية هو وسلوكيات الإنسان. كل فعل إنساني يحمل دلالة قد لا تكون واضحة، ولكن يجب على الباحث الكشف عنها من خلال عمله.

بناءً على ذلك، يتوجب على الباحث في بنية التكوين، خلال تحليله للنص الأدبي، أن يعمل على تفسير النص من منظور خارجي مع التركيز على العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية والنفسية. فتتميز البنية الدلالية للنص بأبعاد فلسفية تعكس ثقافة المجتمع ضمن إطار زمني معين، مما يستدعي تحليلها لفهم نشأتها وعوامل تكوينها.

مرتكزات البنيوية التكوينية

تستند البنيوية التكوينية إلى أربعة مرتكزات أساسية، حددها لوسيان غولدمان وفقًا لنوعية العلاقة بين الحياة الاجتماعية والإبداع الأدبي. هذه العلاقة تقوم على الانسجام الوجودي بين النص الأدبي والبنيات الذهنية لفئة اجتماعية معينة، وتعتبر هذه المرتكزات بمثابة أدوات إجرائية تُستخدم في التحليل الأدبي السوسيولوجي التكويني. ويمكن تلخيص هذه المرتكزات كالتالي:

  • رؤية العالم: تعد رؤية العالم من المرتكزات الجوهرية للبنيوية التكوينية، حيث يعرفها غولدمان بأنها مجموعة من الأفكار والمشاعر التي توحد أفراد مجموعة اجتماعية أو طبقة، مما يجعلها في تباين مع مجموعات أخرى. تتميز الرؤية بالتكامل والانسجام.
  • الفهم والتفسير: ترتكز عملية الفهم والتفسير على العلاقة التكاملية بين البنية الداخلية للنص والعوامل الخارجية الاجتماعية والثقافية والتاريخية والنفسية، مما يعزز إنشاء بنيات دالة تمثل سلوك جماعي معين.
  • البنية الدالة: يُعرّفها غولدمان بأنها تمثل الواقع والمضمون الاجتماعي داخل النص الأدبي، وهي تصور فلسفي يتحكم في كافة بنيات العمل الأدبي، مما يعكس رؤية المبدع للعالم.
  • الوعي القائم والوعي الممكن: يسلط هذا المرتكز الضوء على العلاقة بين الوعي والحياة الاجتماعية. حيث يشير الوعي القائم إلى إدراك فئة اجتماعية ما لوضعها الراهن، بينما يرمز الوعي الممكن إلى ما يمكن أن تصل إليه وعي تلك الفئة دون المساس بطبيعتها.
  • التماثل أو التناظر: يُبرز هذا المفهوم العلاقة الجدلية بين العمل الأدبي والبنية الدالة، موضحًا الصلة بين الحياة الاجتماعية ومضمون النص الأدبي.
Published
Categorized as أدب الرحلات حول العالم