امتد عشق الغزل العذري خلال فترة زمنية محدودة لا تزيد عن خمسين عامًا، وقد رافقه عدة ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية ساهمت في ظهوره، والتي عبر عنها أيضًا. في السطور التالية، نستعرض الأبعاد الثقافية والسياسية والاجتماعية للغزل العذري:
كانت الثقافة في بيئة الغزل العذري متأثرة بشكل مباشر بالإسلام، الذي أسهم في تشكيل الخصائص الحضارية والثقافية لمناطق مثل الحجاز ونجد، حيث كانت تلك المناطق تفتقر إلى التداخل مع الحضارات الأخرى ومعرفة تأثيراتها.
وقد انعكس هذا التأثير الديني على سكان تلك المناطق، كما أشار طه حسين حين قال: “تأثروا بالإسلام، وبالقرآن تحديدًا، مما أدى إلى وجود نوع من التقوى في نفوسهم لم يكن حضريًا بالكامل ولا بدويًا بحتًا، بل اجتمعت فيه سذاجة البداوة ورقة الإسلام.”
وربما يبدو في تعبير طه حسين بعض الغرابة، إلا أن الهدف منه هو الإشارة إلى أن البدو الذين عاشوا في الصحراء واستقبلوا الإسلام، قد حصلوا على ثقافة جديدة تختلف تمامًا عما كانوا يعرفونه، مما دفعهم إلى الإتجاه بعيدًا عن الغزل الإباحي إلى نوع أكثر طهارة يتماشى مع الثقافة السائدة.
تعد السياسة من العوامل الأساسية التي يستحيل تجاهلها عند دراسة أي ظاهرة اجتماعية أو أدبية، إذ ترتبط الأبعاد السياسية ارتباطًا وثيقًا بمعظم الظواهر الاجتماعية أو الاقتصادية، بما في ذلك الغزل العذري.
يرى بعض النقاد، ومن بينهم طه حسين، أن الغزل العذري نشأ في ظروف سياسية معينة، حيث إن عندما انتقلت الخلافة إلى الشام على يد بني أمية، تعرضت الدولة لعدد من الضغوط التي سعت لتهديد استقرارها. وقد كان تركيز بني أمية منصبًا على تعزيز سلطتهم، مما أدى إلى عزل مناطق مثل العراق والحجاز عن مركز السلطة، واعتبرتها أماكن لسبب الفتنة والانشقاقات. شعر سكان هذه المناطق باليأس والأمل المفقود نتيجة تراجع الدولة الإسلامية وعجز الأمويين عن ترسيخ أقدامهم.
تجاهل أهل الحجاز والعراق مسألة السياسة العامة بعد فقدان الأمل فيها، وعكفوا على تفاصيل حياتهم، مما ألهمهم إلى التعبير عن اليأس والتطلع إلى المستحيل من خلال شعريات جديدة ظهرت في الحب العذري والغزل الشديد الوله.
تتزامن نشأة الغزل العذري مع نوع آخر من الغزل، هو الغزل الإباحي، لكن الفارق يكمن في أن كل منهما نشأ في بيئة مختلفة؛ حيث يمثل الغزل الإباحي بيئة حضرية بينما الغزل العذري يعكس بيئة بدوية.
يجسد الغزل العذري قسوة وصعوبة الحياة في البيئة البدوية، حيث لم يعرف سكان الحجاز ونجد البذخ والرفاهية التي قد تكون معروفة في المدن. كذلك، كان للدين تأثير كبير على استقرار هذه البيئة.
ويتضح ذلك من خلال ارتباط الشاعر العربي بمحبوبته والمكان الذي تعيش فيه، حيث يسترجع ذكرياته المرتبطة بمكان الحب، مما يعكس حنينه لتلك البيئة التي ولدت هذا الحب.
على سبيل المثال، في قصيدة لعبدالله بن العجلان، يستحضر مشاعر الحنين لدى وقوفه أمام ديار محبوبته ويتعجب من التغيرات التي طرأت عليها، حيث يقول:
أعاود عيني نصبها وغرورها
أهم عناها أم قذاها يعورها
أم الدار أمست قد تعفّت كأنها
زبور يمان قد رقشته سطورها
ذكرتُ بها هنداً وأترابها الألى
بها يكذب الواشي ويعصى أميرها
فما معول تبكي لفقد أليفها
إذا ذكرته لا يكف زفيرها
بأغزر مني عبرة إذ رأيتها
يحثُّ بها قبل الصباح بعيرها
أحدث التعليقات