تعتبر أعماق المحيطات المناطق الواقعة على عمق 200 متر أو أكثر، وهي تتميز بنظام بيئي معقد وصعب. وذلك يعود إلى عدة عوامل:
يتطلب من الكائنات البحرية التي تتواجد في هذه الأعماق التأقلم مع أسلوب حياة في واحدة من أكثر البيئات تحدياً على وجه الأرض. في السابق، كان اكتشاف أعماق المحيطات وظروفها البيئية صعباً، نظراً لنقص الإمكانيات اللازمة للوصول إلى تلك الأعماق. ومع بداية القرن التاسع عشر، بدأ العلماء الأوروبيون في دراسة الحياة في أعماق المحيطات.
تأثرت عمليات التمثيل الضوئي في هذه المنطقة بسبب قلة أشعة الشمس، حيث تتراوح درجات حرارة الماء بين 3-10 درجات مئوية، مما يجعلها باردة جداً. أيضًا، تعاني هذه الأعماق من انخفاض مستويات الأكسجين الذائب، مع ضغط جوي يقارب 400 ضغط جوي، مما يؤدي إلى تقليل أعداد الكائنات الحية. حيث تعيش في هذه الأعماق حوالي 25% من أنواع الكائنات الحية، التي يُقدر عددها بنحو 8.7 مليون نوع، وقد اكتشف العلماء جزءاً صغيراً منها، ويعتقدون بأن 91% منها لا يزال غير مكتشف.
تتأقلم الكائنات الحية في أعماق المحيطات مع ندرة الموارد الغذائية، نظراً لقلّة الكائنات المتواجدة هناك. على سبيل المثال، تم العثور على نوع من ديدان البلوط على عمق 2700 متر بالقرب من سلسلة جبال في وسط المحيط الأطلسي. هذه الديدان تتميز بشفاهها الطويلة، مما يمكنها من التقاط فرائسها من مسافات بعيدة. كما تمتلك أسناناً حادة تساعدها على سحق أي شيء تتناوله، وذلك لأنها مضطرة لتناول أي مادة غذائية متاحة للبقاء على قيد الحياة. فمها كبير وكهفي، ولا تتمكن من إغلاقه نظراً لحجم أسنانها.
تمثل هذه الديدان مثالاً على مجموعة كبيرة من الكائنات التي تمتلك خصائص فريدة تساهم في بقائها في أعماق المحيطات.
يبدأ ضوء الشمس بالتناقص اعتباراً من المناطق السطحية وصولاً إلى أعماق المحيطات، حيث يصبح الضوء منعدماً تماماً. لون المياه يبدو أزرق نتيجة امتصاص ألوان الضوء المتبقية مع زيادة العمق، ليصبح الجو معتماً كالليل. لذا، تتكيف الكائنات الحية مع هذا الظلام، حيث تملك بعض الأنواع مثل أسماك الحدادة عيوناً كبيرة جداً، مما يمكنها من استقبال كميات ضئيلة من الضوء. بينما بعض الأنواع الأخرى مثل الأسماك ثلاثية الأبعاد تكون عمياء تماماً، وتعتمد على حاستي الشم واللمس للتعرف على المحيط من حولها.
تحتوي بعض هذه الكائنات على أجزاء مضيئة، مما يخلق مشهداً جذاباً يعرف بالتلألؤ البيولوجي، والذي تستخدمه الكائنات لأغراض متعددة، مثل أسماك الفانوس التي تصدر الضوء من مقدمتها للرؤية، وأخرى تجذب الأنواع المشابهة للبحث عن رفاق. بينما أسماك الصيد تستخدم الضوء لجذب الفريسة ثم اصطيادها، وبعضها يصدر ضوءاً من قاعه ليظهر كأشعة الشمس الناتجة من الأعلى، وبذلك تختفي عن الأنظار المفترسات الموجودة تحتها.
تتأثر معظم الكائنات الحية بالضغط العالي في أعماق المحيطات، حيث تسحق بعضها عند بلوغ تلك الأعماق. لكن الكائنات التي تعيش في هذه الأعماق لا تتأثر بذلك، نظراً لأن أجسامها تعتمد بشكل رئيسي على الماء، ولأن الماء يتمتع بخصائص عدم الانضغاط. بالإضافة إلى ذلك، لا تحتوي أجسامها على أعضاء تحتوي على غازات مثل الرئتين أو المثانة، مما يسهل عليها التأقلم مع تلك الظروف. كما يؤثر الضغط على التفاعلات الكيميائية الحيوية التي تحدث داخل أجسامها لتسهيل عمليات التمثيل الغذائي.
على سبيل المثال، السمكة المنتفخة تُعدّ من الكائنات الغريبة، ومع ذلك، تتحمل الضغط العالي في هذه الأعماق بفضل تركيب جسمها الهلامي ذو الكثافة الأقل من كثافة الماء. ولا تحتاج هذه الكائنات لطاقة كبيرة، بل تنتظر مرور الطعام أمامها لتهيئته.
تصنف الكائنات التي تعيش في أعماق المحيطات ككائنات ضخمة أو عملاقة. يتضح أن الكائنات الأكبر حجماً تميل إلى المزيد من القوة والقدرة على التكيف مع الظروف الصعبة. بالإضافة إلى ذلك، فإن العيش في مياه باردة جداً يؤدي إلى زيادة حجم الخلايا وعمرها. ومن الأمثلة على ذلك الحبار العملاق، الذي يُعتقد أن وزنه يتجاوز 680 كيلوغرام. كما توجد أيضاً أنواع عملاقة من القشريات، مثل الروبيان وسرطانات البحر، ولكنها تكون بأحجام أكبر، إذ يبلغ وزنها حوالي 1.7 كيلوغرام وطولها يصل إلى 76 سم. وهناك أيضاً سرطان البحر العنكبوت الياباني، الذي يمكن أن يصل طوله إلى 12 متراً ووزنه يصل إلى 20 كيلوغراماً.
اكتشف العلماء وجود فتحات حرارية في قاع المحيطات، تشبه الينابيع الساخنة. تتشكل هذه الفتحات نتيجة تباعد الصفائح التكتونية، مما يؤدي إلى خروج الصهارة الساخنة من باطن الأرض. تتكون هذه الصهارة عندما تختلط بالماء البارد، ومن ثمّ تتشكل قشور جديدة وسلاسل جبلية بركانية. بسبب الضغط المرتفع، تذوب المعادن وتخرج إلى السطح، لتختلط مع الماء البارد. تقوم البكتيريا المتواجدة هناك بتحويل هذه المعادن السامة إلى طاقة من خلال عملية تُعرف بالتخليق الكيميائي، مما يوفر الغذاء لهذه الكائنات دون حاجة إلى أشعة الشمس.
توجد في أعماق المحيطات فتحات حرارية تُعرف بشقوق في قاع المحيطات، تصدر هواءً شديد السخونة. تطلق هذه الفتحات الكبريتيد الهيدروجيني، الذي يُعدّ واحداً من مصادر الطاقة المتواجدة في الأعماق، بالإضافة إلى الميثان الذي يتسرب من نفس هذه الفتحات. ولكن بالرغم من وجود مثل هذه المصادر المحتملة للطاقة، لا تزال مسألة استغلالها بشكل فعال قيد البحث والدراسة.
تعاني الأعماق من التلوث الناتج عن الأنشطة البشرية، حيث يمتد هذا التلوث إلى الأعماق ويؤثر على الكائنات الحية، مثل معدات الصيد والنفايات البحرية والبلاستيك ومخلفات الصرف الصحي، بالإضافة إلى مواد كيميائية من عمليات الحفر والتعدين. هذه الكائنات التي تعيش في أعماق البحار تتعرض لتهديد حقيقي بفضل التلوث الناتج عن البشر.
الحياة في أعماق البحار مليئة بالكائنات المتنوعة، وقد تمكن الإنسان من استكشاف بعضها، لكن الجزء الأكبر لم يتم اكتشافه بعد. تستفيد هذه الكائنات من صفات وخصائص تجعلها قادرة على التأقلم مع الظروف البيئية الصعبة في أعماق البحار، حيث تصبح درجات الحرارة منخفضة بشكل كبير، والضغط عالياً، والشح في الموارد الغذائية.
أحدث التعليقات