قدّر الله -عز وجل- أن يُختبر كل مَن يدعو إلى طريقه، وجعل ذلك سُنةً من سنن الخلق بين الأنبياء وأتباعهم. قال الله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذي جَعَلَكُم خَلائِفَ الأَرضِ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ دَرَجاتٍ لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم إِنَّ رَبَّكَ سَريعُ العِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رَحيمٌ). والمقصود بالابتلاء في الآية هو الاختبار، حيث يختبر الله -عز وجل- عباده ليميز بين صادق إيمانهم وكاذبه، وكلما زاد صمودهم في الإيمان، منحهم الله القوة في أرضهم. فهذه هي حال الأمم جميعًا. يُستخدم كل من البلاء والابتلاء للإشارة إلى اختبارات الله -عز وجل- لعباده، وغالبًا ما يصاحب البلاء الأذى، بالرغم من إمكانية حدوثه أيضًا في الأوقات السعيدة. فالبلاء هو من قدر الله مرتبطًا بخلقه، ويأتي وفقًا لمستوى إيمان العبد، حيث كلما كان الإيمان أقوى كان الابتلاء أعظم، وبالتالي، كان جزاء الصابرين أكبر.
وضع الله -تعالى- ابتلاءه للأنبياء لرفع درجاتهم، كقدوة لمن خلفهم، ولتحذير المتبعين من تقديسهم على نحو يتجاوز حدود البشرية، فهم بشر معصومون من الذنوب. وقد وصف ابن القيم تلك الابتلاءات بأنها كرامات، فبينما يظهر البلاء، فإن باطنه يحمل الخير والرحمة. ويُعتبر البلاء أيضًا تكليفًا لما يتضمنه من مشقة وجهد واختبارات. يتم التفريق بين البلاء والمصيبة والعقوبة من خلال أن البلاء يشير إلى الاختبار والامتحان، في حين أن المصيبة تشير إلى ما قد يصيب الإنسان من الشدائد. أما العقوبة فتكون كعقوبة على ما ارتكبه العبد من الذنوب.
روى سعد بن أبي وقاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قالَ: الأَنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ، فإن كانَ في دينِهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ). من يصبر ويحتسب من العباد -غير الأنبياء- على بلاء الله يغفر له ذنبه، لكن الأنبياء معصومون من الذنوب، ويأتي بعدهم في قوة الابتلاء الصالحون الأكثر إيمانًا، ثم الأقل إيمانًا وهكذا.
قدرت حكمة الله -تعالى- في ابتلاء أنبيائه -عليهم الصلاة والسلام- العديد من الأهداف، منها:
روى أنس بن مالك أن رسول الله قال: (إنَّ أيُوبَ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبِث في بلائِه ثمانَ عشْرةَ سنةً فرفَضه القريبُ والبعيدُ إلَّا رجلينِ مِن إخوانِه). ورغم العناء الذي لاقاه، لم يظهر أي تذمر أو شكوى، حيث كان في قمة الأدب مع الله. وعندما بدأ قومه بالشماتة به، أزعجه ذلك، فتوجه إلى الله يتضرع إليه، فقال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). فاستجاب الله له وكشف ما به من ضر وأعطاه أهله ورزقًا من عنده.
استمرّت دعوة نوحٍ -عليه السلام- تسعمئة وخمسون عامًا، حيث حاول بشكل حثيث دعوة قومه، لكن نجا معه عدد قليل منهم. بعدما أُمِرَ بصناعة السفينة، لم يكن ابنه من المخلصين، لذا لم يركب السفينة. وعندما ناداه نوح، لم يلبِّ نداء أبيه ولجأ إلى الجبل، برغم تحذيرات نوح له.
كما ابتلى الله -تعالى- سيّدنا نوح ولوط -عليهما السلام- بزوجتيهما، كما جاء في قوله -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
رأى إبراهيم -عليه السلام- في منامه أنه يذبح ابنه إسماعيل، وهي رؤية صادقة للأنبياء. عندما أخبر ابنه، رد عليه إسماعيل: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). ومع قرب تنفيذ الأمر، أرسل الله كبشًا ليكون فداءً لولده، حيث نجح إبراهيم في امتحانه، فقال -تعالى-: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).
عانى العديد من الأنبياء جراء دعوتهم لقومهم ومنهم:
أحدث التعليقات