يقع جامع قرطبة، المعروف أيضاً بمسجد قرطبة، في الجنوب الغربي لمدينة قرطبة الحالية، والتي توجد في جنوب إسبانيا، على ضفاف نهر الوادي الكبير. يُحيط بالجامع سور كبير، مما يجعله يبدو كالجزيرة المحاطة بأربعة شوارع عندما يتم النظر إليه من الأعلى.
أمر الخليفة الأموي عبد الرحمن بن معاوية المعروف بلقب “الداخل” أو “صقر قريش” ببناء جامع قرطبة؛ إذ قام بتجديد الخلافة الأموية في المغرب الأقصى بعد انهيارها في المشرق.
سعى عبد الرحمن إلى نقل التراث الشامي إلى المغرب، فأطلق مشروع بناء قصر الرصافة وبدأ في إنشاء جامع قرطبة بين عامي (168 و170هـ/784-786م). توفي “الداخل” قبل اكتمال بناء هذا المعلم العظيم، وقام ابنه هشام باستكماله، بينما واصل الخلفاء الأمويون اللاحقون تعزيز البناء وتوسيعه.
وفقاً لبعض المؤرخين، عندما استقرت الأمور لعبد الرحمن الداخل، أنفق نحو ثمانين ألف دينار على إنشاء هذا المسجد. واعتبروا أنه لا يوجد في بلاد الإسلام أعظم ولا أجمل من هذا البناء. يمتدّ شكل البناء العام مع الجدران ليكون رباعياً ومتكاملاً، حيث يضم المسجد 142 عموداً، يتكون كل عمود من أربعة أجزاء: قاعدة، بدن، تاج، وحدارة تتوج التاج. في عام (377هـ/987م)، قام المنصور بن أبي عامر بتوسعة المسجد بسبب زيادة عدد السكان إثر استقدام قبائل البربر من المغرب وأفريقيا، حيث شرع المنصور في توسيع البناء من الجهة الشرقية.
من أبرز معالم جامع قرطبة:
استعان عبد الرحمن الداخل في بناء المسجد بأعمدة رومانية جلبت من مبانٍ سابقة. كانت هذه الأعمدة متساوية في الأبعاد رغم اختلاف أسلوب نحتها، بارتفاع يصل إلى 4.20 متراً وتم تثبيتها فوق قواعد ذات ارتفاعات مختلفة. لهذا السبب، تم الاستغناء عن تلك الأعمدة خلال التوسعات اللاحقة، واستبدلت بأعمدة رخامية أسطوانية الشكل لأغراض وظيفية وزينية في أروقة الصلاة.
تم بناء القباب ذات العروق المتقاطعة لأول مرة خلال أحد التوسعات التي قام بها الأمراء المتعاقبون في الأندلس. توجد قبة رئيسية تغطي وسط قبتين، حيث تتميز قبة المحراب بزخارف ملساء وألوان زاهية. كل قبة من هذه القباب المتجاورة تقوم على قاعدة مربعة، باستثناء القبة الرابعة الموجودة في نهاية الرواق الأكبر، والتي تعتمد على قاعدة مستطيلة.
وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات الجزئية بين القباب، إلا أنها تتبع تصميمًا هندسيًا موحدًا. تظهر في مستوى هذه القباب نوافذ تتوزع بالتساوي، مما يمنح الداخل مظهراً متناسقاً وكأنها تحف فنية متكاملة. المظهر الخارجي للقباب يخفي ما بداخلها من تكوينات هرمية الشكل مغطاة بالقرميد، مما يستدعي من الزوار التأمل في روعة هذا البناء وإبداعه.
نال محراب جامع قرطبة خلال عملية التوسعة الأخيرة اهتمامًا خاصًا من قبل القائمين على البناء، فبرز بمميزات هندسية وزخرفية فاخرة. في هذا السياق، يذكر المراكشي أنه بعد اكتمال القبة المبنية على المحراب، بدأ العمل على وضع الفسيفساء التي أرسلها ملك الروم إلى الخليفة الحكم.
حصل الحكم على تعليمات من الملك لتوجيه صانع الفسيفساء إليه، مما أدى إلى إرسال صانع الفسيفساء مع 320 قنطاراً هدية من الملك. وكان الحكم قد أعطى تعليمات بتوسيع العمل وتدريب عدد من خدمه على هذه الصناعة. وقد قدم هؤلاء الرفاق إبداعات إضافية في العمل، مما أضفى جمالية فريدة على تصميم الفسيفساء الذي يحتوي على كتابات كوفية وزخارف نباتية مستوحاة من الطبيعة.
أحدث التعليقات