لقد تم نزول القرآن الكريم على مرحلتين: المرحلة الأولى تتمثل في انتقاله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، والمرحلة الثانية هي نزوله من السماء الدنيا إلى النبي محمد -صلّى الله عليه وسلّم- بشكل تدريجي. وبالنسبة للنزول الأول، فقد حدث بشكل كامل في وقت يُعتقد أنه بعد بعثة النبي -صلّى الله عليه وسلّم-، وفي ليلة القدر من شهر رمضان، وهذا يتضح من قوله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ) وأدلة أخرى. يُشير العرب عادة إلى الإنزال كعملية تحدث دفعة واحدة، وتعتبر هذه المسألة كافية إذا وُجِد خبر صحيح يُدعم هذا الرأي دون الحاجة إلى دليل قاطع مثل تلك المتعلقة بالعقيدة.
تعددت آراء العلماء في مراحل نزول القرآن الكريم، وفيما يلي تفاصيل تلك الآراء:
تجسد حكمة الله -تعالى- في نزول القرآن كاملاً إلى بيت العزّة تأكيدًا لعلو منزلته ومكانة النبي محمد -صلّى الله عليه وسلّم- الذي أُنزل عليه، إذ أبلغ الله الملائكة بنزول الكتاب السماوي الأخير على أكبر أمة. ويمثل بيت العزّة هذا تكريمًا للقرآن، وقد كان نزوله جملة في مكان واحد ليُظهر مكانة القرآن بين الكتب السماوية. نزل القرآن أولاً جملة، واختص بالنزول الثاني بأن وُجد مفرّقاً، مما يُظهر فضل النبي محمد عن سابقيه. لقد كان النزول وفق إرادة الله بمراعاة الأحداث والتغيرات المستمرة، كما أكّد السخاوي في “جمال القرّاء”، بأن النزول جملة كان تكريمًا لبني آدم وإظهارًا لرعاية الله بهم.
اختارت إرادة الله أن ينزل القرآن الكريم على النبي محمد بشكل تدريجي لتثبيت قلبه ومساعدته على مواجهة معارضة قومه. كلما نزلت آيات جديدة، كان ذلك تجديدًا للعهد وإدخال السرور على قلبه. كما أظهر إعجاز القرآن من خلال الرد على الأسئلة التحديّة من المشركين. هذا التدريج يسهل حفظ القرآن وفهمه، خاصة وأن الأمة كانت أُميّة، مما جعل الذاكرة أداةً رئيسية في الحفظ. لهذا، أنزل الله القرآن على دفعات تتماشى مع الأحداث الحياتية للصحابة، عملًا على تسهيل فهم الدين. كما أن نزول الآيات وفق الأحداث كان يهدف إلى توجيههم وإيضاح أسس الدين، مثل تلك الآيات التي نزلت لتعطي الأمل لمن تخلفوا عن غزوة تبوك.
هذا يأتي ضمن أسباب إرادة الله للنزول المفرّق، كما جاء في قوله -تعالى-: (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)، فكان هدفه تعزيز قلب النبي. لذا، فإن ذلك التأني ضروري لإحداث الإصلاح والتغيير. تم نزول القرآن على مدار ثلاث وعشرين عامًا ليتناسب مع تطلعات رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وصحابته، إذ كان الهدف توسيع نطاق الإسلام ومعالجة الأسس الإيمانية. وقد أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى أن بداية النزول كانت بشكل مكي، مركزًا على العقائد، ثم تتابعت الأحكام العملية في المدينة.
تؤكد الآيات مرارًا على النصر وقوة المتقين، وتشد من أزر النبي عندما يواجه الشدائد، تذكره بأخبار الأمم السابقة. كما كانت ترد على اعتقادات الكفار الباطلة من خلال آيات تحدي تتعلق بإعجاز القرآن وصدقية الرسالة، وتركز الآيات بشكل أساسي أثناء الفترة المكية على العقائد، بينما تلك المدينية تركزت حول الأحكام، وكذلك تركزت على إدارة شؤون المسلمين في حياة المجتمع الجديد.
أحدث التعليقات