عبارة “أما بعد” تُعتبر حرف شرط وتفصيل وتوكيد، أما كلمة “بعد” فهي ظرف مبهم يتضح معناه من خلال ما يليها، وهي تعبر عن عكس كلمة “قبل”. تُستخدم عبارة “أما بعد” بشكل شائع في بداية الرسائل بعد التحية، وتأتي بمعنى “الآن”، كما تُستعمل في مقدمات الكتب والخطب لتسهيل الانتقال من موضوع لآخر. كان العرب يستخدمونها بعد تبادل الآراء في خطاباتهم، لذلك أُطلق عليها اسم “فصل الخطاب”، دليلاً على اتخاذ القرار الجازم في موضوع ما.
يُجمع الباحثون في علم البيان على أن هذه العبارة تعتبر فصل الخطاب، حيث يبدأ المتحدث كلامه بذكر الله وشكره، وعندما يرغب في الانتقال إلى موضوع آخر، يفصل بين الأمرين بعبارة “أما بعد”. كما يُقال أنها تعني “مهما يكن من أمر بعد”. وقد ذكر أبو إسحاق أن المرء إذا أراد تغيير الحديث، ينطق بعبارة “أما بعد”.
لم يتم التوافق على أول شخص نطق بعبارة “أما بعد”، حيث يُعتقد أن هناك سبعة أشخاص قد يكونوا من قالها للمرة الأولى، وهم: آدم، داود، يعقوب عليهم السلام، بالإضافة إلى قس بن ساعدة، كعب بن لؤي، يعرب بن قحطان، وسحبان بن وائل. وبالنسبة لاعتبار آدم عليه السلام أول من قالها، يُعزى ذلك إلى قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)، حيث إن الله سبحانه وتعالى علم آدم الأسماء، ومن بين تلك الأسماء “أما بعد”، والله أعلم. أما داود عليه السلام، فيستند إلى قوله تعالى: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)، حيث تُعتبر “أما بعد” عبارة تعني فصل الخطاب.
أما يعقوب عليه السلام، فقد رُوي عنه أنه نطق بهذه العبارة عندما جاءه ملك الموت قائلاً: “أما بعد، فنحن عائلة موكلون بالبلاء”. يُقال كذلك أن أول من قال “أما بعد” هو قس بن ساعدة، أو كعب بن لؤي، حيث كان يجمع الناس ويقول: “أما بعد، فاسمعوا وافهموا وتعلموا”، وكذلك يعرب بن قحطان، أو سحبان بن وائل. وقد تم تجميع آراء مختلفة حول هذه القضية في الأبيات التالية:
فهاك خلافاً في الذي قد تقدما
بنطـق أما بعـد فاحفـظ لتــغنمـا
فــداود، يـعـقـــوب، وآدم أقـــــرب
فقس، فسحبان، فكعب، فيعرب
وذكر العلَّامة السفاريني أن هناك جدل حول من كان أول من قال هذه العبارة، فقد قيل إن داود عليه السلام هو الأقرب، وكما قال الحافظ ابن حجر فإن جميع الأقوال ممكنة. ومن جهة أخرى، نظم شمس الميداني أبياتاً شعرية تناولت ذات الموضوع:
جرى الخُلف أما بعد من كأن بادئاً
بهــا عُدّ أقــوالا وداود أقـــربُ
ويــعـــقـــوب أيــوب الــصـبـور وآدم
وقس وسحبان وكعب ويعربُ
كما روى الطبراني حديثاً عن أبي موسى الأشعري يتعلق بأول من قال “أما بعد” حيث يُشير إلى أن داود عليه السلام هو الأول، إلا أن الإسناد وُصِف بالضعف. وكذلك روى الطبراني وعبد بن حميد حديثاً عن الشعبي يتعلق بفصل الخطاب الذي منحه الله لداود عليه السلام.
يمثل استخدام عبارة “أما بعد” من الأمور المستحبة اقتداءً برسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث كان يستخدمها في خطبه ورسائله حسب الحاجة. فقد أشار إليها في كتابه إلى هرقل ملك الروم عندما دعاه إلى الإسلام، وأيضاً في موقف بريرة المشهور عندما تساءل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشروط التي وضعها الرجال والتي ليست في كتاب الله. من المهم أن نلاحظ أنه ليس من اللائق أن يبدأ الشخص حديثه بعبارة “أما بعد” بل من الأفضل استخدامها في السياقات المناسبة.
الغرض من استخدام عبارة “أما بعد” هو الانتقال من موضوع إلى آخر يختلف تماماً عما قبله، سواء كان ذلك اختلافاً في النوع أو الجنس. على سبيل المثال، يمكن أن يقول الشخص: “عمرو مقيم، أما بعد، فزيد ذاهب”، حيث يوضح أن “عمرو” مقيم بينما “زيد” ليس كذلك. أو يمكن أن يُظهر اختلافًا في النوع بقوله: “عمرو ذاهب، أما بعد، فزيد ذاهب”، مما يعني أن كلاً من “عمرو” و”زيد” يذهبان.
أحدث التعليقات