يُعتبر العصر الجاهلي الفترة التي تسبق بروز الدين الإسلامي بحوالي مئة وثلاثين عاماً قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كان العرب في هذا العصر يتميّزون بذكاء حاد، فصاحة في التعبير، سرعة بديهة، وفراسة، مما أضفى عليه طابعاً فريداً، تجلّى من خلال تنوع فنون الشعر التي أبدعوا فيها، حيث شملت أغراضاً متعددة مثل الهجاء، والمدح، والفخر، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة، والموعظة، والاعتذار.
كان المدح والهجاء من أبرز الأغراض الشعرية في تلك الفترة، حيث سعى الشعراء من خلال المدح إلى تعزيز مكانة الممدوح في مختلف مجالات الحياة، بينما كان الهجاء يهدف إلى تحقير المهجو وإلصاق الصفات الذميمة به، مثل الخيانة والجبن. وتُظهر هذه الديناميكية مدى تأثير الشعر في العلاقات الاجتماعية، حيث كان العرب يخافون من قصائد الهجاء التي قد تلطخ سمعتهم، وقد دفعوا مبالغ طائلة للشعراء الذين نظموا قصائد مدح لغرض ضمان الاحترام أو حمايتهم من إساءات الهجاء. ويمثل هذا النوع من الشعر وسيلة للتعبير عن مشاعر الغضب والسخط ضد شخص أو قبيلة معينة في ذلك الوقت. (1)
وفقاً لما ذكره القيرواني في كتابه “العمدة” ، كانت القبائل العربية إذا بُرز في القبيلة اسم شاعر معين، تتسابق القبائل الأخرى لتهنئتها، وتُقيم الولائم، وتجمع النساء كما في الأعراس. (2) وكان للشاعر مكانة متميزة تضمن له الحب والحماية من باقي أفراد القبيلة، إذ كان يُعتبر لسان حالهم، يدافع عنهم، ويخلد منجزاتهم ويصون شرفهم، مما يجعل الشعر مرآة تعكس الصورة المثالية للجماعة القبلية. (3)
تُظهر المكانة المرموقة للشاعر في مجتمعه أهمية الشعر كدليل على الحكمة والمعرفة، حيث كان يؤرخ فيه الأحداث ويعبر عن آراء القبيلة، مما يجعلهم يعتمدون عليه في أمورهم. وقد ارتفع مكانة الشعراء من مجرد كونهم لسان القبيلة إلى أن أصبحوا حكيموها، يُحسنون الحكم ويعبرون عن موقعها في المجتمع. ومن الأمثلة البارزة على ذلك شعراء مثل عمر بن كلثوم والتابغة والحارث بن حلزة اليشكري. (4)
مع مرور الوقت، تغيّرت مكانة الشعراء نتيجة للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة بعد ظهور طبقات ثرية في القبيلة، مما أدى إلى تحول العلاقة بين الشعراء وسادة القبائل من علاقة ولاء إلى أخرى قائمة على المصلحة. حيث زاد الاهتمام بالعطايا المقدمة للشعراء كلما كانت قصائدهم أكثر جودة، مما أدى إلى تغيير وظيفة الشعر من الدفاع عن العشيرة إلى كونه وسيلة لكسب المال والسلطة. (5)
تعددت الأغراض الشعرية التي سادت في العصر الجاهلي، ومن أبرزها: (6)
أفاطِمُ قب
أحدث التعليقات