تناولت قصائد أبو الطيب المتنبي العديد من الموضوعات، وبرزت مجموعة من الخصائص اللغوية والفنية والموضوعية في شعره، سنستعرض أبرزها فيما يلي:
اعتمد المتنبي على أسلوب الإيجاز الذي يركز على تكثيف المعنى من دون حشو، مستخدماً ألفاظاً قليلة. يُعرف هذا الأسلوب في اللغة العربية بتسمية جوامع الكلم. مثال على ذلك قوله في قصيدة “أعيدوا صباحي”:
بِأَيِّ بِلادٍ لَم أَجُرَّ ذُؤابَتي
وَأَيُّ مَكانٍ لَم تَطَأهُ رَكائِبي
كَأَنَّ رَحيلي كانَ مِن كَفِّ طاهِرٍ
فَأَثبَتَ كوري في ظُهورِ المَواهِبِ
يُعتبر المتنبي من أبرع الشعراء في مجال الوصف، حيث يتميز بدقة تشخيصه. مثال على ذلك قوله في قصيدة “بنا منك”:
وَما المَوتُ إِلّا سارِقٍ دَقَّ شَخصُهُ
يَصولُ بِلا كَفٍّ وَيَسعى بِلا رِجلِ
يَرُدُّ أَبو الشِبلِ الخَميسَ عَنِ اِبنِهِ
وَيُسلِمُهُ عِندَ الوِلادَةِ لِلنَملِ
أغنى المتنبي شعره بصور فنية تجذب انتباه القراء أو المستمعين، حيث يتمتع بخيال فني فائق. مثال على ذلك قوله في قصيدة “بنا منك”:
بَدا وَلَهُ وَعدُ السَحابَةِ بِالرَوى
وَصَدَّ وَفينا غُلَّةُ البَلَدِ المَحلِ
وَقَد مَدَّتِ الخَيلُ العِتاقُ عُيونَها
إِلى وَقتِ تَبديلِ الرِكابِ مِنَ النَعلِ
استخدم أسلوب التخيل في المديح لتعزيز فضائل ممدوحه، ومن أبرز هذه الأمثلة مدحه لسيف الدولة في قصيدة “نعد المشرفية”:
رَأَيتُكَ في الَّذينَ أَرى مُلوكاً
كَأَنَّكَ مُستَقيمٌ في مُحالِ
فَإِن تَفُقِ الأَنامَ وَأَنتَ مِنهُم
فَإِنَّ المِسكَ بَعضُ دَمِ الغَزالِ
استثمر المتنبي المعاني المتعددة ضمن البيت الواحد، وليس فقط في القصيدة ككل، مما يوحي بتعدد الدلالات رغم الإيجاز. مثال على ذلك قوله في قصيدة “بغيرك راعيًا”:
رَمَيتَهُمُ بِبَحرٍ مِن حَديدٍ
لَهُ في البَرِّ خَلفَهُمُ عُبابُ
فَمَسّاهُم وَبُسطُهُمُ حَريرٌ
وَصَبَّحَهُم وَبُسطُهُمُ تُرابُ
وَمَن في كَفِّهِ مِنهُم قَناةٌ
كَمَن في كَفِّهِ مِنهُم خِضابُ
بَنو قَتلى أَبيكَ بِأَرضِ نَجد
وَمَن أَبقى وَأَبقَتهُ الحِرابُ
لاحظ النقاد أن شعر المتنبي اعتمد على فن التصدير وعودة الأعجاز إلى الصدور، مما يضفي طابعاً موسيقياً للأذن. مثال على ذلك قوله في قصيدة “لا الحلم جاد”:
لا الحِلمُ جادَ بِهِ وَلا بِمِثالِهِ
لَولا اِدِّكارُ وَداعِهِ وَزِيالِهِ
إِنَّ المُعيدَ لَنا المَنامُ خَيالَهُ
كانَت إِعادَتُهُ خَيالَ خَيالِهِ
بِتنا يُناوِلُنا المُدامَ بِكَفِّهِ
مَن لَيسَ يَخطُرُ أَن نَراهُ بِبالِهِ
تعددت الأغراض الشعرية عند المتنبي، ومن أبرزها:
يُعد الفخر سمة بارزة في شعر المتنبي، حيث تنوعت أنواعه على النحو التالي:
استعرض المتنبي في شعره مسألة الكرم بشكل واسع، إذ يبرز كرمه كفضيلة لا حد لها. ومن الأمثلة على ذلك قوله:
كَفانِيَ الذَمَّ أَنَّني رَجُلٌ
أَكرَمُ مالٍ مَلَكتُهُ الكَرَمُ
يَجني الغِنى لِلِّئامِ لَو عَقَلوا
ما لَيسَ يَجني عَلَيهِمِ العَدَمُ
كان المتنبي موقناً بتفوقه في مجال الشعر، مكرساً أشعاره لتعزيز موهبته وامتلاكه قدرة فريدة على الإبداع. مثال على ذلك قوله:
أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
Bِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى
عكس المتنبي في أشعاره اعتزازه بنفسه بشكل بارز، حيث تصور ذاته في صورة متعالية، مبرزاً صفات العظمة. مثال على ذلك قوله في قصيدة “ألا لا أرى الأحداث حمدًا”:
تَغَرَّبَ لا مُستَعظِماً غَيرَ نَفسِهِ
وَلا قابِلاً إِلّا لِخالِقِهِ حُكما
وَلا سالِكاً إِلّا فُؤادَ عَجاجَةٍ
وَلا واجِداً إِلّا لِمَكرُمَةٍ طَعما
يَقولونَ لي ما أَنتَ في كُلِّ بَلدَةٍ
وَما تَبتَغي ما أَبتَغي جَلَّ أَن يُسمى
كَأَنَّ بَنيهِم عالِمونَ بِأَنَّني
جَلوبٌ إِلَيهِم مِن مَعادِنِهِ اليُتما
وَما الجَمعُ بَينَ الماءِ وَالنارِ في يَدي
بِأَصعَبَ مِن أَن أَجمَعَ الجَدَّ وَالفَهما
وَلَكِنَّني مُستَنصِرٌ بِذُبابِهِ
وَمُرتَكِبٌ في كُلِّ حالٍ بِهِ الغَشما
شكل التغني بشجاعة العديد من الأمراء والخلفاء جزءاً مهماً من شعر المتنبي، حيث تمثل شجاعة سيف الدولة نموذجه البارز. مثال على ذلك قوله:
وَمَن تَكُنِ الأُسدُ الضَواري جُدودَهُ
يَكُن لَيلُهُ صُبحاً وَمَطعَمُهُ غَصبا
وَلَستُ أُبالي بَعدَ إِدراكِيَ العُلا
أَكانَ تُراثاً ما تَناوَلتُ أَم كَسبا
فَرُبَّ غُلامٍ عَلَّمَ المَجدَ نَفسَهُ
كَتَعليمِ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنَ وَالضَربا
إِذا الدَولَةُ اِستَكفَت بِهِ في مُلِمَّة
كَفاها فَكانَ السَيفَ وَالكَفَّ وَالقَلبا
تُهابُ سُيوفُ الهِندِ وَهيَ حَدائِدٌ
فَكَيفَ إِذا كانَت نِزارِيَّةً عُربا
خص المتنبي بالرثاء من يرتبط بهم بقرابة أو من أسهموا في حياته، ومن هؤلاء جدته التي رثاها بقصائد معبّرة:
أَلا لا أَرى الأَحداثَ حَمداً وَلا ذَمّا
فَما بَطشُها جَهلاً وَلا كَفُّها حِلما
إِلى مِثلِ ما كانَ الفَتى مَرجِعُ الفَتى
يَعودُ كَما أُبدي وَيُكري كَما أَرمى
لَكِ اللَهُ مِن مَفجوعَةٍ بِحَبيبِها
قَتيلَةِ شَوقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصما
أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها
وَأَهوى لِمَثواها التُرابَ وَما ضَمّا
بَكَيتُ عَلَيها خيفَةً في حَياتِها
وَذاقَ كِلانا ثُكلَ صاحِبِهِ قِدما
توجه المتنبي بالهجاء إلى الأشخاص الذين خذلوه أو أساءوا إليه، حيث عبّر عن سخطه ضد الزمن في قوله:
صَحِبَ الناسُ قَبلَنا ذا الزَمانا
وَعَناهُم مِن شَأنِهِ ما عَنانَا
وَتَوَلَّوا بِغُصَّةٍ كُلُّهُم مِنـ
ـهُ وَإِن سَرَّ بَعضُهُم أَحيانا
سُمي المتنبي بـ “شاعر المعاني”، إذ تُعتبر أشعاره غنية بمعانيها. أشاد النقاد بكثافة معاني شعره وتنوع أغراضه، وأوضح رجال الشعر واللغة أنهم كانوا يحتارون أمامه بسبب وفرة المعاني. ويصف الفصحاء شعره بأنه يمتاز بمعنى واضح ودلالة ظاهرة.
تتعلق المآخذ على شعر المتنبي بما يلي:
إن بعض المعاني في شعره تجاوزت الحد المعقول، مما جعلها تبدو غامضة لبعض النقاد، كما في قصيدة “أحاد أم سداس”:
أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ
لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَنادِ
عانت العاطفة في شعره من القيود نتيجة انشغاله في السعي نحو المجد، كما يتضح في قوله:
نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ
ـكَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ
وُجهت العديد من الآراء النقدية حول شعر المتنبي من بينها:
لقد قال في مقدمته: “إن الشعر لا يكون سهلًا إلا إذا كانت معانيه تسبق ألفاظه إلى الذهن، ولهذا كان شيوخنا يُعيبون شعر ابن خفاجة وذلك لكثرة معانيه، كما كانوا يعيدون شعري المتنبي والمعري بعدم النسج على الأساليب العربية”.
أشار اليازجي في كتابه العرف الطيب إلى أن المعاني الشعرية ليست من قبيل الأسرار، بل هي معان طبيعية تدرك من أدنى رمزية، وأن الاختراع لا يتطلب تعقيداً.
يُعتبر المتنبي من أبرز الشعراء الذين تُجرى حولهم الدراسات. ومن أهم الكتب التي تناولت أشعاره:
تأليف المفكر عباس حسن، صدر عام 1951م، حيث تناولت الدراسة موضوعات شعر المتنبي وقارنتها بأشعار أحمد شوقي.
تحقيق الدكتور درويش الجويدي، وهو مجلدين يتضمن كافة أشعار المتنبي مرتبة أبجدياً، وقد صدر عن دار المكتبة العصرية عام 2014، ويشمل تحليلاً مفصلاً لأشعار المتنبي وتفسير المعاني الغامضة.
قصائد المتنبي تُعتبر من أروع ألوان الشعر العربي، فمنها:
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ
فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَةٌ
وَقَد نَظَرتُ إِلَيهِ وَالسُيوفُ دَمُ
فَكانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ
وَكانَ أَحسَنَ مافي الأَحسَنِ الشِيَمُ
فَوتُ العَدُوِّ الَّذي يَمَّمتَهُ ظَفَرٌ
في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ
قَد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوفِ وَاِصطَنَعَت
لَكَ المَهابَةُ مالا تَصنَعُ البُهَمُ
أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها
أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ
أَكُلَّما رُمتَ جَيشاً فَاِنثَنى هَرَباً
تَصَرَّفَت بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ
عَلَيكَ هَزمُهُمُ في كُلِّ مُعتَرَكٍ
وَما عَلَيكَ بِهِم عارٌ إِذا اِنهَزَموا
أَما تَرى ظَفَراً حُلواً سِوى ظَفَرٍ
تَصافَحَت فيهِ بيضُ الهِندِ وَاللِمَمُ
لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ
عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ.
يا أُختَ مُعتَنِقِ الفَوارِسِ في الوَغى
لَأَخوكِ ثَمَّ أَرَقُّ مِنكِ وَأَرحَمُ.
يَرنو إِلَيكِ مَعَ العَفافِ وَعِندَهُ
أَنَّ المَجوسَ تُصيبُ فيما تَحكُمُ.
راعَتكِ رائِعَةُ البَياضِ بِعارِضي
وَلَوَ أَنَّها الأولى لَراعَ الأَسحَمُ.
لَو كانَ يُمكِنُني سَفَرتُ عَنِ الصِبا
فَالشَيبُ مِن قَبلِ الأَوانِ تَلَثُّمُ.
وَلَقَد رَأَيتُ الحادِثاتِ فَلا أَرى
يَقَقاً يُميتُ وَلا سَواداً يَعصِمُ.
وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً
وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ.
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ.
وَالناسُ قَد نَبَذوا الحِفاظَ فَمُطلَقٌ
يَنسى الَّذي يولى وَعافٍ يَندَمُ.
لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ
وَاِرحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ.
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى
حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَمُ.
أحدث التعليقات