من المهم الإشارة إلى أنه لا يوجد نص صريح يحدد آخر السور القرآنية نزولًا، وإنما استند الصحابة في ذلك إلى ما سمعوه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. لذا، كان هناك خلاف حول تحديد آخر سورة، وإليكم بعض الآراء المتعلقة بهذا الاختلاف:
لم يكن اختلاف العلماء حول تحديد آخر ما نزل من القرآن الكريم إلا نتيجة لعدة أمور، منها ذكر آخر ما سمع أو ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته، أو آخر ما تلاه الرسول -عليه الصلاة والسلام-، ويأتي ذلك من باب الاجتهاد والترجيح؛ إذ لم يرد أثر يحدد آخر ما نزل مرفوعًا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-. قد يكون سبب هذا الاختلاف أيضًا ناتجًا عن عدم وضوح النص المفرغ من رسم القرآن الكريم، مما قد يؤدي للاعتقاد بأن آخر ما نزل هو ما دُوّن في نهاية القرآن، بالإضافة إلى أنه قد يعود أيضًا إلى عدم الاتّفاق على قول واحد، مما يستلزم الاعتماد على الاجتهاد في النقل.
تعددت الآراء بشأن آخر الآيات التي نزلت على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قيل إنها آية الكلالة* الواردة في سورة النساء. فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قوله: (آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الكَلَالَةِ} وآخر سورة نزلت هي براءة)، كما ورد عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن آخر آية نزلت كانت آية الربا في سورة البقرة، حيث قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). وقد أخرج البخاري في صحيحه أيضًا عن ابن عباس قول: (آخر آية نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- هي آية الربا).
كما ورد ذلك عن صحابة آخرين مثل عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري. وذكر ابن عباس أيضًا أن آخر آية كانت: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). بينما ذكر أبي بن كعب -رضي الله عنه- أن آخر آيات نزلت كانت من سورة التوبة، كما روي عنه أنه قال: (إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأني بعدها آيتين: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم…)، ليكون بذلك آخر ما أنزل من القرآن.
واتفق سعيد بن المسيب وابن شهاب على أن آخر ما نزل من القرآن آية الدين من سورة البقرة، حيث يقول -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ… وَاتَّقُوا اللَّـهَ). وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة أن آخر آية نزلت كانت: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ…). وقد أكدت هذه الآية ظاهرة تتعلق بالنساء. كما أخرج البخاري أيضًا عن عبد الله بن عباس أن الآية (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) هي آخر ما نزل، ولكنها تظل غير الأخيرة بالنسبة للقرآن ككل، بل هي آخر ما نزل بشأن حكم محدد.
يجدر بالذكر أن هناك خطأ شائع يتعلق بـ (اليوم أكمَلْتُ لكم دينكم…) على أنها آخر آية نزلت من القرآن الكريم. حيث
يفهم البعض أن إكمال الدين يعني إكمال نزول القرآن، وهو فهم غير دقيق. فقد نزلت هذه الآية بعد أكثر من شهرين من نزول الآيات الأخيرة، وقبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بتسع ليالٍ. حيث يراد بإكمال الدين إظهاره وأقراره، بالإضافة إلى إتمام المسلمين لجوانب الحج، وهذا ما أكده ابن جرير الطبري، وغيرهم من العلماء. تُظهر هذه النصوص أن سورة المائدة وهذه الآية ليستا أخر ما نزل من القرآن.
الهامش
* الكلالة: الميت الذي لا يحصل له وارث من الأولاد أو الأهل، وهو موضوع يتعلق بأحكام الميراث.
أحدث التعليقات